بطل في أوشفيتز- رحلة بليتسكي من الجحيم إلى الخيانة

(1)
قد يختار البطل أشد المهام صعوبة، ويخوض غمار المعارك في الصفوف الأمامية، وربما يتسلل بجرأة خلف خطوط العدو، مشاركًا في عمليات انتحارية جسورة. ولكن، هل يمكن أن يصل الأمر به إلى حد أن يقرر بمحض إرادته الالتحاق بمعسكر اعتقال، مكان يُسجن فيه الأبرياء، ويُعذبون بوحشية، بل ويُحرقون بشكل جماعي في مشهد تقشعر له الأبدان؟ هذا بالضبط ما أقدم عليه بطل هذه الحكاية المذهلة.
كان يؤمن إيمانًا راسخًا بأن طبيعة مهمته تتسم بالاستخباراتية في المقام الأول، وكان الهدف الأسمى لكفاحه يتمثل في كشف النقاب عن سر معسكر غامض يقع على مسافة 50 كيلومترًا من مدينة كراكوف، وهو معسكر تُرتكب فيه جرائم التعذيب يوميًا بصورة مروعة، وذلك على أمل حشد أوسع نطاق ممكن من الدعم الدولي الضروري لخوض معركة فاصلة ضد ألمانيا النازية. وذلك في فترة حرجة لم تكن فيها أميركا قد اتخذت قرارها الحاسم بالانخراط في الحرب الدائرة في أوروبا.
(2)
في الثالث عشر من شهر مايو/أيار عام 1901، وُلد "فيتولد بليتسكي" لعائلة بولندية كاثوليكية ملتزمة. وبعد أن أدى واجبه في صفوف الجيش، استقر به المقام في مدينة ليدا، التي كانت آنذاك جزءًا لا يتجزأ من بولندا، قبل أن تصبح لاحقًا تابعة لبيلاروسيا. وفي سن الثلاثين، تزوج من معلمة فاضلة، وأنجب منها طفلين، لينعم مع أسرته بحياة سعيدة وهانئة، بعيدة كل البعد عن المخاطر والصعاب، مستمتعًا بأوقاته في مزرعته، حيث كان يمضي وقته في الرسم وكتابة الشعر، ولكن لم تدم هذه السعادة طويلًا.
في شهر أغسطس/آب من عام 1939، اندلعت الحرب العالمية الثانية، واجتاحت القوات النازية الغاشمة بولندا. وعلى الفور، تم استدعاء بليتسكي للانضمام إلى صفوف المدافعين عن وطنه في وجه الغزو النازي. وعندما منيت بلاده بالهزيمة، سارع بالانتقال إلى العاصمة وارسو، للانخراط في صفوف المقاومة البولندية السرية الباسلة.
بعد مرور عام واحد، تم اعتقال مجموعة كبيرة من المعارضين السياسيين البولنديين، وزُج بهم في معسكر تم إنشاؤه خصيصًا في منطقة أوشفيتز. وبعد فترة وجيزة، بدأت تصل برقيات مشؤومة تُبلغ عائلات السجناء بوفاتهم. أثار هذا الأمر الشكوك العميقة لدى قادة المقاومة، فقرر بليتسكي التطوع لكشف الحقيقة المرة التي لا يرى سبيلًا إلى ذلك سوى أن يخاطر بنفسه ويدخل إلى قلب هذا المعسكر الجهنمي، ومن ثم اتخذ أخطر قرارات حياته على الإطلاق.
كان يؤمن إيمانًا قاطعًا بأن طبيعة مهمته استخباراتية في المقام الأول، وكان الهدف الأسمى يكمن في كشف سر هذا المعسكر الغامض الذي يقع على بعد خمسين كيلومترًا من مدينة كراكوف، وهو معسكر تُرتكب فيه جرائم بشعة من التعذيب بشكل يومي لا يتوقف، وذلك على أمل حشد أكبر قدر ممكن من الدعم الدولي اللازم للقتال ببسالة ضد ألمانيا النازية. في ذلك الوقت الحرج، لم تكن أميركا قد حسمت بعد قرارها بشأن الانخراط في الحرب في أوروبا، بل كانت قطاعات واسعة من الرأي العام الألماني نفسه تجهل تمامًا طبيعة النظام النازي الشرير، في حين كانت هناك شعوب أخرى ما زالت تعتقد أن النظام النازي قد جاء لتحريرها، ولذلك سلم السكان مدنهم وقراهم دون مقاومة.
كان الهدف الأساسي هو فضح حقيقة النظام النازي عالميًا، وحشد أكبر قدر ممكن من الدعم للقضية البولندية العادلة، وذلك عن طريق تأليب أكبر عدد ممكن من الدول والشعوب ضد النازية.
(3)
يفتعل أزمة مفتعلة مع السلطات النازية الغاشمة، مدعيًا بأنه معارض سياسي شرس، وتسير الخطة الشيطانية كما أرادها تمامًا، ويُلقى القبض عليه على الفور، ويُحتجز في مكان ما لمدة يومين مع ما يقدر بحوالي 1800 سجين سياسي آخرين، قبل نقلهم جميعًا إلى معسكر أوشفيتز الرهيب، ليعيش هناك تجربة مريرة من العذاب والآلام، ويختبر الموت بأبشع صوره لمدة عامين ونصف.
اعتبر بليتسكي أن لديه مهمتين أساسيتين يجب عليه القيام بهما على أكمل وجه؛ الأولى هي رفع الروح المعنوية لدى السجناء السياسيين البولنديين من خلال جلب الأخبار السارة من خارج المعتقل، والثانية هي إرسال تقرير مفصل عن الظروف المأساوية داخل المعتقل إلى قادة المقاومة البولندية في الخارج، لكي يقوموا بدورهم بإبلاغ الحلفاء بذلك؛ حيث كان المعتقل محاطًا بقدر كبير من السرية والتكتم، حتى على الألمان أنفسهم.
وبالفعل، نجح بليتسكي في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 1940 في إرسال تقريره الأول مع سجين تم إطلاق سراحه في حالة نادرة واستثنائية، وتلقت المقاومة البولندية التقرير بصدمة وذهول كبيرين، فما نقله إليهم بطلنا كان أشد بشاعة ورعبًا من أسوأ تخيلاتهم.
يخبرهم التقرير المفصل بأن معسكر الاعتقال ليس مخصصًا فقط لاحتجاز السجناء السياسيين البولنديين، وإنما يضم أيضًا -إلى جانب البولنديين- أعدادًا كبيرة من السوفيات والغجر، وأن لليهود نصيبهم الأكبر في هذا العذاب.
ويروي لهم أيضًا أن المعسكر قد شهد أولى عمليات الإعدام باستخدام أفران الغاز السامة، والتي مورست في البداية على أسرى الحرب السوفيات، ثم توسعت بعد ذلك لتشمل اليهود الأبرياء والمعاقين التعساء والغجر. وينقل لهم بالتفصيل كيف يتم إعدام المعتقلين بوحشية في غرف الغاز، وكيف يتم حرق جثامينهم النتنة في المحارق الجماعية، وأن عمليات تعقيم إجبارية كانت تُجرى للغجر دون أي اشتراطات صحية كافية، مما أدى إلى وفاة العديد من المعتقلين متأثرين بجراحهم العميقة.
(4)
يشكل بليتسكي مع زملائه الشجعان خلية سرية داخل المعتقل، تنجح في تجميع جهاز إرسال لاسلكي بدائي من أجزاء مهرَّبة بصعوبة بالغة، ومن خلاله يقوم بتسريب تقارير مفصلة عن الظروف المأساوية داخل المعسكر وأعداد الضحايا المتزايدة. يحتمل بليتسكي كل صنوف التعذيب الوحشي، لكنه يقر بأن الجوع كان أشد معركة قاسية في حياته بأسرها، خصوصًا مع إصابته بالتهاب رئوي حاد، مع انعدام تام للرعاية الصحية، مما دفعه بعد أكثر من عامين من المعاناة إلى التخطيط الجدي للفرار من هذا الجحيم.
في البداية، عارضت خليته السرية أية محاولة للهروب من المعتقل، وذلك بسبب العقوبات الجماعية القاسية التي ستفرض في هذه الحالات على السجناء الأبرياء، ولكن صدور أمر مفاجئ بنقل رفاقه إلى معسكرات أخرى عجل باتخاذ القرار المصيري.
كان لديه ليلة واحدة فقط للتنفيذ قبل نقله، وكان الإخفاق يعني الإعدام العلني الفوري.
لكنه ينجح بفضل ذكائه ودهائه مع رفيقين له في التسلل عبر أنفاق مظلمة بعيدًا عن أعين الحراس، وقطع مسافة طويلة تقدر بمئة كيلومتر سيرًا على الأقدام، قبل أن يتمكنوا أخيرًا من الوصول إلى منطقة آمنة بعد أسبوع كامل من الهروب المضني.
وبعد ثلاثة أشهر ونصف، يعود بليتسكي الشجاع إلى وارسو لينضم من جديد إلى رفاقه الأبطال في المقاومة البولندية، لكن مغامراته الجريئة لا تعرف حدودًا.
(5)
في عام 1944، ينضم بليتسكي إلى ما عرف باسم "انتفاضة وارسو"، لكن الجيش الألماني الغاشم يقمعها بوحشية لا مثيل لها، ويقتل ما يزيد على مئة ألف بولندي معظمهم من المدنيين الأبرياء. ويُلقى القبض عليه مرة أخرى، ويُرحّل إلى معسكر لأسرى الحرب في ألمانيا نفسها، ويخوض من جديد تجربة الموت الرهيبة، ولكن لحسن حظه تهزم ألمانيا ويطلق سراحه مع بقية الأسرى.
يفرح بحريته المسلوبة، لكنه يضطر رغمًا عنه إلى الانتقال إلى إيطاليا؛ لأن بلاده وقعت تحت النفوذ الشيوعي السوفياتي، الأمر الذي اعتبره احتلالًا آخر بغيضًا. وفي إيطاليا، ينضم إلى فريق من المقاومة البولندية يشاركه نفس الرأي، ويسعى بكل ما أوتي من قوة لتحرير البلاد من هذا الاحتلال الجديد، ولا يستريح لبقائه بعيدًا عن وطنه، فيقرر بعد فترة وجيزة لا تطول أن يعود سرًا إلى العاصمة وارسو، ليجد نفسه في مواجهة مباشرة مع الحكومة الشيوعية التابعة للاحتلال السوفياتي.
في وارسو الشيوعية، يواجه بليتسكي نوعًا آخر من الخطر، إنه خطر رفاق المقاومة القدامى الذين تحولوا إلى أعداء بسبب الخلافات السياسية الحادة، وكان أخطر ما في هؤلاء الرفاق أنهم يعرفون عنه الكثير مما ينبغي.
وكما كان متوقعًا، ألقت السلطات الشيوعية القبض على بليتسكي في الثامن من شهر مايو/أيار عام 1947، ووجهت إليه اتهامات باطلة بالتجسس والتخطيط لاغتيال شخصيات رئيسية في الشرطة البولندية، ويتعرض بطل معسكر أوشفيتز لتعذيب شديد وممنهج لإجباره على التوقيع على اعتراف كاذب بالتجسس، وفي محكمة صورية هزلية -لا يُسمح فيها بتقديم الشهود ولا بالدفاع عن التهم المنسوبة إليه- يُحكم عليه بالإعدام شنقًا.
وبالفعل، في الخامس والعشرين من شهر مايو/أيار عام 1948 وفي سجن موكوتو الرهيب، يطلق "الرفاق" النار مباشرة على رأس بليتسكي، ليكتبوا بذلك النهاية المأساوية لرفيق المقاومة الذي نجا بأعجوبة من الموت على يد أعدائه، لتكون نهايته المحزنة على يد أبناء وطنه.
(6)
في عام 1990، وبعد فترة وجيزة من انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك النظام الشيوعي في بولندا، تتم تبرئة بليتسكي أخيرًا بعد وفاته المأساوية، ويُعترف رسميًا ببطولاته الجسيمة التي قدمها للمقاومة البولندية، ولكن بعد مرور ثلاثة وأربعين عامًا كاملة على إعدامه الظالم، وتعتبره السلطات الجديدة بطلاً قوميًا يستحق التقدير والتبجيل في بولندا.
هناك مناضلون أبطال يتعبون في منتصف الطريق فيتوقفون عن النضال، وهناك مناضلون آخرون يدورون مع الحق حيثما دار، بعيدًا عن الأضواء والشهرة، ويُصرون بإيمان راسخ على ألا يتوقفوا أبدًا عن الدفاع عن الحق والعدل.